تسييس الجيش الإسرائيلي- صراع السلطة وتآكل الديمقراطية

منذ نشأة الكيان الصهيوني، ترسخ تقسيم الأدوار بين السلطتين السياسية والعسكرية، وفقًا لمبادئ وضعها الزعيم التاريخي لحزب مباي، ديفيد بن غوريون.
يقوم هذا التقاسم على فكرة أن السلطة السياسية تستمد شرعيتها من انتخابات عامة، ولكنها تعتمد بشكل جوهري على تقييمات المؤسسة العسكرية للوضع الإقليمي المعقد. وفي المقابل، تخضع المؤسسة العسكرية للسلطة السياسية المنتخبة، لكنها تحتفظ بالاستقلالية في التعيينات الداخلية وتقدير المخاطر التي تهدد الدولة.
نتيجة لذلك، كان الجيش، من خلال شعبة الاستخبارات العسكرية النافذة، يمارس تأثيرًا كبيرًا على توجهات القيادة السياسية، وذلك من خلال احتكاره لتقديرات التوجهات الإستراتيجية السنوية.
استنادًا إلى هذه التقديرات، كانت تحدد احتياجات الجيش، وتخصص له الميزانيات الضخمة. وقبل الطفرة الاقتصادية التي شهدتها إسرائيل في مطلع الثمانينيات، كانت ميزانية الجيش تستحوذ على ما يقارب 30% من الميزانية العامة، مما جعله أكبر مستهلك لموارد البلاد.
لكن هذا الواقع تبدل مع تزايد الدعم المالي الأميركي لإسرائيل، والنمو المطرد للصناعات العسكرية الإسرائيلية، وتطور الصادرات التكنولوجية، والتغيرات العميقة في هيكل الاقتصاد الإسرائيلي. ورافقت ذلك تحولات أيديولوجية جوهرية في بنية المؤسسة السياسية الإسرائيلية، خصوصًا بعد صعود اليمين إلى سدة الحكم في عام 1977.
هنا بدأت معادلة تقسيم الأدوار في التصدع؛ وذلك لأن اليمين يعتبر أن ما كان يطلق عليه "اليسار" هو الذي أسس المفاهيم المؤسساتية في الدولة، وبالتالي أثر بشكل كبير في بنية القطاع العام والخدمة المدنية، وكذلك في الجيش ووسائل الإعلام.
ورغم نجاح اليمين في الوصول إلى السلطة، إلا أنه اعتبر نفسه غير قادر على الحكم بشكل كامل؛ بسبب الإرث الذي تركه "اليسار" في المؤسسات. ومع نشوة الانتصارات المتتالية لليمين، ازدادت رغبته في تغيير هياكل المؤسسات العامة، بما فيها الجيش والقوانين، وصولًا إلى وسائل الإعلام.
في العامين الأخيرين، تصاعدت الخلافات الحادة حول ما يعرف بـ "الإصلاح القضائي"، والذي يرى فيه الكثيرون محاولة لتطويع الديمقراطية الإسرائيلية لتلبية متطلبات الفاشية المتصاعدة.
انقسم المجتمع الإسرائيلي انقسامًا عميقًا، وحذر العديد من المراقبين من أن هذا قد يقضي على مستقبل الدولة. لكن هذا لم يمنع اليمين الحاكم من المضي قدمًا في مساعيه لإقرار قوانين تخدم مصالحه السياسية والشخصية، وتقوض أسس المفاهيم الديمقراطية الراسخة.
في ظل الحرب المستمرة منذ ما يزيد على 14 شهرًا، برزت بوضوح محاولات تسييس الجيش من خلال استغلال مبدأ خضوع الجيش للسلطة السياسية عبر وزير الدفاع.
إلا أن وزير الدفاع كان دائمًا يأخذ في الاعتبار موقف الجيش، ويسعى للدفاع عنه أمام السلطة السياسية لاعتبارات عديدة. ونادرًا ما كان وزير الدفاع يتخذ موقفًا مخالفًا لما تريده المؤسسة العسكرية من آراء وتحديد للاحتياجات والتوجهات.
وقد تجلى بوضوح في الحرب الأخيرة حجم الخلافات بين الجيش ومكتب رئيس الوزراء نتنياهو، من خلال الصدامات العلنية بين نتنياهو ووزير دفاعه يوآف غالانت. وأدت هذه الصراعات إلى إقالة نتنياهو لغالانت أثناء الحرب، وهو ما اعتبر بمثابة عمل عدائي ضد الجيش.
من المعروف أن الجيش سبق له أن أجبر، على سبيل المثال، رئيس الحكومة ووزير الدفاع في عام 1967 على تعيين موشيه ديان وزيرًا للحرب قبل أيام من شن حرب يونيو/حزيران 1967. وهذا يظهر مكانة الجيش الذي كان ولا يزال يحظى بثقة الجمهور، وهي أعلى بكثير من تلك التي تتمتع بها الحكومة والسياسيون.
أكدت وسائل الإعلام أن ثقة الجمهور في الجيش الإسرائيلي ظلت مستقرة إلى حد ما خلال الحرب؛ وذلك لأنه الجهة الوحيدة التي تحميهم. ووفقًا لبيانات معهد دراسات الأمن القومي (INSS) الصادرة الشهر الماضي، تبلغ الثقة في الجيش الإسرائيلي حاليًا 85%، بينما لا تتجاوز الثقة في الحكومة 25%.
ومع ذلك، تراجعت الثقة في المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي قليلًا منذ بداية الحرب، ولكنها في ارتفاع مستمر منذ شهر يوليو/تموز، وهي تبلغ حاليًا ضعف الثقة في بنيامين نتنياهو، والتي لا تزيد على (34%) فقط.
إلا أن قوة الجيش هذه لم تمنع نتنياهو وقوى اليمين من مهاجمة رئيس الأركان وقيادة الجيش، ومحاولة تقييد حرية عملهم. ومع ظهور قضية التسريبات في ديوان رئاسة الحكومة ومتابعتها جنائيًا، ازدادت الحملات الشرسة على قيادة الجيش.
منذ تعيين يسرائيل كاتس وزيرًا للحرب بدلًا من غالانت، تعالت الأصوات التي تقول إنه جاء لخدمة مصالح اليمين في تقييد حرية الجيش وتسييسه. وكان من بين أول القرارات التي اتخذها كاتس، والتي تدل على رغبته في تسييس عمل الجيش، مطالبته بإلغاء استدعاء إيال نافيه – أحد مؤسسي حركة "إخوة السلاح" – وشخصيات أخرى تلعب دورًا بارزًا في الاحتجاجات ضد الحكومة؛ للخدمة الاحتياطية في الجيش.
من المعروف أن حركة "إخوة السلاح" أعلنت رفضها الخدمة في الجيش، ما دام اليمين يصر على المضي قدمًا في مساعيه لإحداث "الانقلاب القضائي". والعديد من أعضاء هذه الحركة هم ضباط في وحدات النخبة، وخاصة في "سييرت متكال".
ولكن هؤلاء ومجموعة من الطيارين الذين أعلنوا أيضًا رفضهم الخدمة، كانوا من أوائل الملتحقين بالجيش في الحرب الجارية. لكن اليمين رفض انضمامهم للجيش، بحسب ما قاله وزير الإعلام شلومو كرعي: "شعب إسرائيل سيتدبر أمره بدونكم وأنتم ستذهبون إلى الجحيم".
كما شنت قناة الـ 14 التلفزيونية اليمينية هجومًا لاذعًا عليهم، واعتبرت وحداتهم العسكرية يسارية، ويجب طرد جنودها من الجيش. يذكر أن قسمًا من هؤلاء وقعوا على عريضة يشترطون فيها خدمتهم العسكرية بتنفيذ الحكومة صفقة لتبادل الأسرى مع حماس.
تجدر الإشارة إلى أن تعيين كاتس وزيرًا للدفاع تم أساسًا لتفعيل مسار يتجاوز المحكمة العليا في قضية التجنيد، كان نتنياهو قد وعد به الأحزاب الحريدية. وتوفر مسألة تجنيد الحريديم جانبًا هامًا لتسييس الجيش، إذ ترفض الأحزاب الحريدية – لاعتبارات دينية – تجنيد طلاب المدارس الدينية التابعة لها.
كما أن أحزاب اليمين المحتاجة لأصوات الحريديم لاستقرار الحكومة، ومواصلة الهيمنة على المجتمع، تخضع لإملاءات الحريديم، وترفض سريان مبدأ التجنيد الإلزامي على شبابهم. ونظرًا لحاجة الجيش لجنود – وخاصة في ظروف الحرب – ازدادت الانتقادات للمتهربين من الخدمة العسكرية لأسباب دينية، فأمرت المحكمة العليا الحكومة بتجنيدهم على قاعدة المساواة وتقاسم الأعباء.
تسييس متطرف
تشهد الأيام الأخيرة مظاهر مقلقة لتسييس الجيش، من خلال استغلال اليمين لقدرته على سن القوانين في الكنيست. ومن أبرز هذه المظاهر موافقة اللجنة الوزارية للتشريع على "قانون فيلدشتاين"، الذي يمنح حصانة من الملاحقة القضائية لأفراد من الأجهزة الأمنية يقومون بنقل معلومات سرية لرئيس الوزراء دون الحصول على موافقة قادتهم.
صدر هذا القانون بشكل أساسي لتبرئة أمثال إيلي فيلدشتاين، الذي كان يشغل منصب المتحدث باسم نتنياهو، والذي ضبط متلبسًا بتزوير وثائق عسكرية سرية ونشرها في صحيفتي "بيلد" الألمانية و"جويش كرونيكل" البريطانية؛ وذلك لتبرير عدم تنفيذ صفقة التبادل، واحتلال محور فيلادلفيا. وكان فيلدشتاين قد حصل على هذه الوثائق من ضابط احتياط يميني في الاستخبارات العسكرية.
احتفظ فيلدشتاين بهذه الوثائق إلى أن استدعى الوضع تخفيف الضغط الشعبي المتزايد على نتنياهو وحكومته لإبرام صفقة تبادل في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، وذلك بعد اكتشاف جثامين ستة أسرى إسرائيليين في رفح. وبحسب وسائل الإعلام الإسرائيلية، فإن "قانون فيلدشتين" يهدف إلى الإيحاء لفيلدشتاين وشريكه، وبالتالي لأمثالهما، بأن نتنياهو لا يتخلى عن رجاله تحت أي ظرف.
أثار الناطق بلسان الجيش دانيال هاغاري عاصفة سياسية هوجاء عندما انتقد بشدة "قانون فيلدشتاين"، معتبرًا أنه "قانون بغاية الخطورة؛ لأنه يخلق وضعًا بالغ التعقيد يسمح لأي جهة صغيرة في الجيش بسرقة وثائق حساسة وتسريبها كيفما تشاء. وهذا سيؤدي حتمًا إلى تعريض أرواح المدنيين والجنود للخطر الداهم.
لذلك أؤكد مجددًا أنه قانون بالغ الخطورة على الجيش، وعلى أمن الدولة برمته." وبسبب الحملة السياسية الشرسة التي تعرض لها هاغاري، اضطر رئيس الأركان هاليفي لتوبيخه "لتجاوزه صلاحياته"، ولأن الجيش "لا ينتقد المشرعين، وإنما يعرض وجهة نظره أمام المستوى السياسي في القنوات الرسمية المعتادة".
من جهة أخرى، وفي سياق سعي اليمين إلى تحميل الجيش مسؤولية الإخفاقات المدوية التي وقعت في 7 أكتوبر/تشرين الأول، يجري البحث المحموم عن كبش فداء لتحميله المسؤولية. وهذا ما يرفضه الجيش جملة وتفصيلاً، حيث قدم عدد من قادته استقالاتهم، مبدين استعدادهم الكامل لتحمل المسؤولية عن هذه الإخفاقات.
لكن نتنياهو والمقربين منه يسعون جاهدين لتحميل المسؤولية العليا لرئيس الأركان هرتسي هاليفي، على أمل أن يخفف هذا التحميل من المسؤولية الجسيمة الواقعة على عاتق نتنياهو والمستوى السياسي.
لقد تزايدت الاتهامات الموجهة إلى هاليفي، وتواترت الأنباء عن وجود نية لإقالته من منصبه وتعيين ضابط كبير آخر مكانه. ويتحدث الكثيرون عن جهود محمومة يبذلها نتنياهو ومقربوه للتدخل بشكل سافر في التعيينات داخل الجيش، وهو أمر كان قائمًا قبل الحرب، وازداد بشكل ملحوظ أثناءها.
حذرت افتتاحية صحيفة "هآرتس" مؤخرًا من أن "عمليات التطهير السياسي التي تجري في الجيش، واستمرار الانقلاب على النظام الديمقراطي، وملاحقة المستشارة القانونية للحكومة، وتوجيه لائحة اتهام بالإرهاب ضد مطلقي قنابل الإنارة البحرية نحو منزل رئيس الوزراء الفارغ، كل هذه الأمور تشكل تراكمًا خطيرًا يهدد الديمقراطية بشكل حقيقي. يجب على الجمهور أن يقاوم ذلك بكل قوة، قبل فوات الأوان".